سورة التوبة - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التوبة)


        


قلت: {ما زادوكم إلا خبالاً} قال بعضهم: هو استثناء منقطع، أي: ما زادوكم شيئاً، لكن خبالاً يُحدِثُونه في عسكركم بخروجهم. قال ذلك: لئلا يلزم أن الخبال واقع في عسكر المسلمين، لكن خروجهم يزيد فيه. وفيه نظر؛ لأن الاستثناء المفرغ لا يكون منقطعاً، ويمكن هنا أن يكون متصلاً؛ لأن غزوة تبوك خرج فيها كثير من المنافقين، فحصل الخبال، فلو خرج هؤلاء المستأذنون في التخلف، القاعدون، لزاد الخبالُ بهم.
وقوله: {ولأوضعوا} أي: أسرعوا، والإيضاع: الإسراع، و{خلالكم}: ظرف، أي: لأسرعوا بينكم بالمشي بالنميمة، وجملة: {يبغونكم}: حال من فاعل أوضعوا.
يقول الحق جل جلاله: {ولو أرادوا}؛ أراد المنافقون {الخروجَ} إلى الغزو معكم، وكانت لهم نية في ذلك {لأعدُّوا له عُدَّةً} أي: لاستعدوا له أهبتَهُ قبل أوانه. فما فعلوا، {ولكن} تثبطوا؛ لأنه تعالى كره {انبعاثهم}، أي: نهوضهم للخروج، {فثبَّطهم} أي: حبسهم وكسر عزمهم، كسلاً وجبناً، {وقيلَ} لهم: {اقعدوا مع القاعدين} من النساء والصبيان وذوي الأعذار، وهو ذم لهم وتوبيخ. والقائل في الحقيقة هو الله تعالى، وهو عبارة عن قضائه عليهم بالقعود، وبناه للمجهول تعليماً للأدب. قال البيضاوي: هو تمثيل لإلقاء الله كراهة الخروج في قلوبهم، أو وسوسة الشيطان بالأمر بالقعود، أو حكاية قول بعضهم لبعض، أو إذن الرسول لهم. اهـ.
{لو خرجوا فيكم} ما زادكم خروجهم شيئاً {إلا خبالاً}؛ فساداً وشراً. والاستثناء من أعم الأحوال، فلا يلزم أن يكون الخبال موجوداً، وزاد بخروجهم، أو إذا وقع خبال بحضور بعضهم معكم ما زادكم هؤلاء القاعدون بخروجهم إلا خبالاً زائداً على ما وقع. {ولأوْضَعُوا} أي: لأسرعوا {خِلالَكُم} أي: فيما بينكم، فيسرعون في المشي بالنميمة والتخليط والهزيمة والتخذيل، {يبغونَكُم الفتنة} أي: حال كونهم طالبين لكم الفتنة، بإيقاع الخلل بينكم، قلوبكم ورأيُكم، فيذهب ريح نصركم، {وفيكم} قوم {سماعُون لهم}؛ فيقبلون قولهم، إما بحسن الظن بهم، أو لنفاق بهم، فيقع الخلل بسبب قبول قولهم، أو فيكم سماعون لأخباركم فينقلونه إلى غيركم، {والله عليم بالظالمين}؛ فيعلم ضمائرهم، وما ينشأ عنهم، وسيجازيهم على فعلهم.
{لقد ابْتَغَوُا الفتنة} أي: تشتيت أمرك وتفْريق أصحابك {من قبلُ} أي: من قبل هذا الوقت، كرجوعهم عنك يوم أُحد، ليوقعوا الفشل في الناس، {وقلَّبوا لك الأمور} أي: دبروها من كل وجه، فدبروا الحيل، ودوروا الآراء في إبطال امرك، فأبطل الله سعيهم، {حتى جاء الحقُّ وظهر أمرُ الله} أي: علا دينه، {وهم كارهون} أي: على رغم أنفهم، والآيتان تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على تخلفهم، وبيان ما ثبطهم الله لأجله وكره انبعاثهم له، وهتك أستارهم، وكشف أسرارهم، وإزاحة اعتذارهم. انظر البيضاوي.
الإشارة: الناس على ثلاثة أقسام: قسم أقامهم الحق تعالى لخدمة أنفسهم وحظوظهم؛ عدلاً.
وقسم أقامهم الحق تعالى لخدمة معبودهم؛ فضلاً. وقسم اختصهم بالتوجه إلى محبوبهم؛ رحمة وفضلاً.
فالأوّلون: أثقلهم بكثرة الشواغل والعلائق، ولو أرادوا الخروج منها لأعدوا له عدة بالتخفيف والزهد، ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم، وقيل: اقعدوا مع القاعدين، أقامهم لإصلاح عالم الحكمة، وأما أهل الخدمة: فرآهم لم يصلحوا لصريح معرفته، فشغلهم بخدمته، ولو أرادوا الخروج من سجن الخدمة إلى فضاء المعرفة لأعدوا له عدة؛ بصحبة أهل المعرفة الكاملة. وأما أهل التوجه إلى محبته وصريح معرفته فلم يشغلهم بشيء، ولم يتركهم مع شيء، بل اختصهم بمحبته، وقام لهم بوجود قسمته، {يَختَصُ بِرحمَتِهِ مَن يَشَاءُ واللَّهُ ذُو الفَضل العَظيم} [آل عمران: 74]. وكل قسم لو دخل مع من فوقه على ما هو عليه، لأفسده، وما زاده إلا خبالاً وشراً. والله تعالى أعلم.


يقول الحق جل جلاله: {ومنهم من يقولُ ائذن لي} في القعود، {ولا تفتنِّي}؛ ولا توقعني في الفتنة، أي: في العصيان والمخالفة، بأ تأذن لي، وفيه إشعار بأنه لا محالة متخلف، أََذِنَ أو لم يأذن، أو في الفتنة؛ بسبب ضياع المال والعيال؛ إذ لا كافل لهم بعدي، أو في الفتنة بنساء الروم، كما قال الجَدُّ بنُ قَيْس: قد علمت الأنصار أني مُولع بالنساء، فلا تفتني ببنات بني الأصفر، ولكني أُعينك بمال، واتركني.
قال تعالى: {أَلاَ في الفتنةِ سقطُوا} أي: إن الفتنة التي سقطوا فيها، وهي فتنة الكفر والنفاق، لا ما احترزوا عنه، {وإنَّ جهنم لمحيطة بالكافرين}، أي: دائرة بهم يوم القيامة، أو الآن؛ لأن إحاطة أسبابها بهم كوجودها، ومن أعظم أسبابها: بغضك وانتظارهم الدوائر بك.
{إن تُصبْك حسنة}؛ كنصر أو غنيمة في بعض غزواتك، {تسؤوهم}؛ لفرط حسدهم وبغضهم، {وإن تُصبك} في بعضها {مصيبة}؛ ككسر أو شدةٍ كيوم أحد، {يقولوا قد أخذنا أمْرَنا من قبلُ} أي: يتبجحوا بتخلفهم أو انصرافهم، واستحمدوا رأيهم في ذلك، {ويتولوا} عن متحدِّثِهم ومجْمعهم، أو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، {وهم فَرحُون} مسرورون بما صنعوا من التخلف عن الجهاد.
الإشارة: ومن ضعفاء اليقين من يستأذن المشايخ في البقاء مع الأسباب وفتنة الأموال، ويقول: لا تفتني بالأمر بالتجريد، فإني لا أقدر عليه، ويرضى بالسقوط في فتنة الأسباب والشواغل، فإن ضم إلى ذلك الإنكار على أهل التجريد، بحيث إذا رأى منهم نكبة أو كسرة من أجل التجريد، والخروج عن عوائد الناس وما هم عليه، فرح، وإذا رأى منهم نصراً وعزاً انقبض، ففيه خصلة من النفاق، والعياذ بالله.


يقول الحق جل جلاله: {قل} لهم يا محمد: {لن يصيبنا} من حسنة أو مصيبة، {إلا ما كتبَ اللهُ لنا} في اللوح الحفوظ، لا يتغير بموافقتكم ولا بمخالفتكم، {هو مولانا}؛ متولي أمرنا وناصرنا، {وعلى الله فليتوكل المؤمنون} أي: وإليه فليفوض المؤمنون أمورهم؛ رضاَ بتدبيره؛ لأن مقتضى الإيمان ألا يتوكل إلا على الله؛ إذ لا فاعل سواه، {قل} لهم: {هل تربّصُون} أي: تنتظرون {بنا إحدى الحُسنيين} أي: إلا إحدى العاقبتين اللتين كل منهما حسنى: إما النصر وإما الشهادة، {ونحنُ نتربصُ بكم} أيضاً إحدى العاقبتين السُوأتين: إما {أن يصيبَكم اللَّهُ بعذابٍ من عنده} بقارعة من السماء، {أو بأيدينا} أي: أو بعذاب بأيدينا، وهو القتل على الكفر، {فتربصُوا} ما هو عاقبتنا، {إنا معكم مُتَربِّصون} ما هو عاقبتكم.
الإشارة: ثلاثة أمور توجب للعبد الراحة من التعب، والسكون إلى رب الأرباب، وتذهب عنه حرارة التدبير والاختبار، وظلمة الأكدار والأغيار: أحدها: تحقيق العلم بسبقية القضاء والقدر، حتى يتحقق بأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وما أصابه لم يكن ليخطئه، قال تعالى: {قل لن يصينا إلا ما كتب الله لنا}، {وَإن يمْسسْك اللَّهُ بضُرِّ فَلا كَاشِفَ له إلاَّ هُوَ}، وليتأمل قول الشاعر:
مَا لا َيُقَدِّرُ لا يَكُون بِحيلَةٍ *** أَبَداً وَمَا هُو كَائِنٌ سَيَكُونُ
سَيَكُونُ مَا هُوَ كَائِنٌ في وَقْتِهِ *** وأخُو الجَهالَةِ مُتْعَبٌ مَخْزُون
وقد ورد عن سيدنا علي كرم الله وجهه أنه قال: سبع آيات: من قرأها أو حملها معه؛ لو انطبقت السماء على الأرض؛ لجعل الله له فرجاً ومخرجاً من أمره، فذكر هذه الآية: {قل لن يصيبنا}، وآية في سورة يونس: {وَإِن يَمسَسْك اللَّهُ بِضُرٍ...} [يونس: 107] الآية، وآيتان في سورة هود: {وَما مِن دآبَّةٍ...} [هود: 6]، الآية، {إنّي تَوَكَّلتُ عَلَى اللهِ رَبَي وَرَبّكُم...} [هود: 56]، الآية، وقوله تعالى: {وكأَيَّن مّنِ دَآبَّةٍ لاَّ تَحمِلُ رِزقُها اللَّهُ يرزُقُها وَإِيَّاكمُ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ} [العنكبوت: 60]، {مَّا يَفتَحِ اللَّهُ للِنَّاسِ مِن رَّحمَةٍ فَلاَ مُمسكَ لَهَا وَمَا يَمسِك فَلاَ مُرسِلَ لَهُ مِن بَعدِهِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكيمُ} [فاطر: 2]، و{ولَئن سَأَلتَهُم}.. في الزمر إلى قوله {عَلَيهِ يَتَوكَّلُ المُتَوَكِلُون} [الزمر: 38]، ونظمها بعضهم فقال:
عليك بقل وإن وما إني في هود *** وكأين مَا يفتحْ ولئن مكملا
وإنما أشار رضي الله عنه إلى معنى الآيات لا إلى لفظها؛ لأنها كلها تدل على النظر لسابق القدر، والتوكل على الواحد القهار.
الأمر الثاني: تحقق العبد برأفته تعالى ورحمته، وأنه لا يفعل به إلا ما هو في غاية الكمال في حقه، إن كان جمالاً فيقتضي منه الشكر، وإن كان جلالاً فيقتضي منه الصبر، وفيه غاية التقريب والتطهير وطي المسافة بينك وبين الحبيب.
وفي الحكم: (خير أوقاتك وقت تشهد فيه وجودَ فاقتك، وتُرَدُ فيه إلى وجود ذلتك، إن أردت بسط المواهب عليك، فصحح الفقر والفاقة لديك، الفاقة أعياد المريدين). إلى غير ذلك من كلامه في هذا المعنى.
الأمر الثالث: تحققه بخالص التوحيد؛ فإذا علم أن الفاعل هو الله ولا فاعل سواه؛ رضي بفعل حبيبه، كيفما كان، كما قال ابن الفارض رضي الله عنه:
أَحِبَّاي أَنْتُمْ أَحسَنَ الدَّهر أم أسا *** فكونوا كما شِئتُمْ أَنا ذلك الخِلّ
وكما قال صاحب العينية:
تَلَذُّ لِيَ الآلام إذْ كُنْتَ مُسقِمي *** وإن تَخْتَبِرني فَهْي عِنْدي صَنَائِعُ
تَحَكَّم بِمَا تَهْواهُ فِيّّ فإنَّني *** فَقيرٌ لسُلطان المَحَبَّةِ طَائِعُ
فهذه الأمور الثلاثة، إذا تفكر فيها العبد دام حبوره وسروره، وسهلت عليه شؤونه وأموره.
وقوله تعالى: {قل هل تربصون بنا...} الآية، مثله يقول أهل النسبة لأهل الإنكار: هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين، إما حسن الختام بالموت على غاية الإسلام، يموت المرء على ما عاش عليه، وإما الظفر بمعرفة الملك العلام على غاية الكمال والتمام، ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعقوبة من عنده؛ بسبب إذايتكم، أو بدعوة من عندنا إذا أَذِنَ لنا. وبالله التوفيق.

4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11